مقابلة مع المطران مار ميلس الوكيل البطريركي العام لكنيسة المشرق الاشورية في استراليا ونيوزيلندا ولبنان اجراها الدكتور عامر ملوكا
نقلا عن موقع عينكاوة
حوار: د.عامر ملوكا
س : ممكن ان يتعرف القارئ الكريم عن السيرة الذاتية لمار ميلس الوكيل البطريركي العام لكنيسة المشرق الاشورية في استراليا ونيوزلند ولبنان ونبذة احصائية مختصرة عن كنيستكم في استراليا ونيوزلندا ولبنان.
اهلا بكم وبالقراء الكرام واقدم لكم شكري على هذه المقابلة التي نطمح ان تكون في خدمة المصلحة العامة.
انا من مواليد بغداد العراق عام 1956، أكملت تعليمي في العراق في الجامعة التكنولوجية عام 1978.
رسمتُ شماساً من قبل قداسة المطران مار يوسف خنانيشوع في يوليو 1973 في كنيسة مار اوديشو في بغداد.
هاجرت إلى أمريكا عام 1979، وهناك درستُ تصميم الحاسوب وعملتُ في سان خوسيه، كاليفورنيا حتى رسامتي الكهنوتية من قبل قداسة البطريرك الراحل مار دنخا الرابع لرعية مار يوسف في سان خوسيه عام 1982.
بسبب ملاحظة نشاطاتي وعملي الروحي والثقافي في الكنيسة، تم اختياري أسقفا من قبل قداسة البطريرك الراحل، ورسمتُ بتاريخ 23 تشرين الأول 1984 على أبرشيتي أستراليا ونيوزيلندا ولبنان لاحقاً. وصلت الى سيدني في 9 مايو 1985وفي عام 1992 بدأتُ دراساتي في جامعة ماكواري في سيدني، وحصلتُ على شهادة البكالوريوس في التاريخ القديم.
عام 2008 تم رسامتي رئيساً للأساقفة أي مطراناً لكنيسة المشرق الآشورية لأبرشيتي أستراليا ونيوزيلندا من قبل قداسة البطريرك الراحل، مار دنخا الرابع.
شغلتُ منصب سكرتير المجمع المقدس لكنيسة المشرق الآشورية للأعوام من 1994-2006 وشاركت كمعاون رئيس لجنة الحوار المشتركة بين الكنيسة الكاثوليكية وكنيسة المشرق الآشورية. عملت كعضو في الجمعية الخاصة للدراسات المسيحية المبكرة في جامعة ماكواري. وانا حالياً رئيس مجلس أمناء أبرشيات استراليا ونيوزلندا، التي تنظم شؤون أملاك الكنيسة والشؤون المالية للكنيسة، ورئيس مجلس المدارس الآشورية المسيحية المحدودة في سيدني.
أكمل حاليا دراستي لنيل درجة الماجستير والدكتوراه في التاريخ القديم في جامعة مكواري.
وبخصوص أبرشية استراليا ونيوزلندا، لدينا اكثر من 5 آلاف عائلة مسجلة في سيدني وهذا العدد لا يشمل العوائل التي وصلت مؤخراً من سوريا والعراق والذين يبلغون حالياً قرابة 200- 300 عائلة غير مسجلة على أقل تقدير.
لدينا 100 عائلة مسجلة في رعية المدينة – City
في مدينة ملبورن لدينا أكثر من 700 عائلة مسجلة في الكنيسة
إضافة الى أبرشية نيوزلندا والتي تبلغ حوالي 2000 شخصا.
س: ماهية اهم الانجازات وحسب علمنا انها كثيرة التي قامت بها كنيستكم في استراليا؟
منذ وصولي الى استراليا تولدتْ لدي رؤية خاصة لأبناء الأبرشية، ترتكز على تنمية الروح الدينية والقومية لدى الرعية، وتنشأتهم على أسس تربوية تعمل على التغلب على مشاعر التغرب والانسلاخ عن الذات والهوية من جهة، وتقوية الأواصر بيننا من أجل انفتاح آمن وسليم على مجتمع متعدد حضارات في أستراليا من جهة ثانية ، فقمت بتأسيس أولاً مدرسة باسم القديس ربان هرمزد الابتدائية المسيحية عام 2001 والتي تضم حالياً حوالي 800 طالبا وطالبة، ثم كلية مار نرساي الآشورية المسيحية عام 2010 والتي تضم حالياً 675 طالباً. وفي العام ذاته افتتحت مركز النعمة لحضانة الأطفال للاعمار من (2-4) في سيدني، وبالموازاة مع ذلك شيدنا عام 2012 مركز التعليم المبكر للأطفال، للاعمار ( 4-5) وربطها بمدرسة القديس ربان هرمزد وكلية مار نرساي الآشورية، لغرض قيام الكنيسة بالدور الآكبر في احتضان الاطفال منذ نعومة اظفارهم ولحين تخرجهم من المرحلة الثانوية.
كما اشرف حالياً على بناء مجمع جديد لكلية مار نرساي الآشورية في منطقة هورسلي بارك، لاستقبال 1000 طالب، والتي سيتم افتتاحها مطلع عام 2018، وهذه الكلية المعاصرة التي تليق بالقرن الحادي والعشرين ستكون مركزاً لكلية لاهوتية معترف بها، خاصة للكنيسة وسنستقدم محاضرين من جامعات محلية ودولية للتدريس فيها.
عام 2012 شيدنا قرية نموذجية للمتقاعدين وكبار السن في كنيسة مريم العذراء، تضم 52 وحدة سكنية. وفي العام ذاته، ايضاً، اسسنا مؤسسة اطفال للرب الروحية، للاعمار (3- 12)، وشيدنا قاعة بأسم قداسة البطريرك الراحل مار دنخا الرابع للاستخدامات المدرسية الى جانب افتتاح مكتبة مدرسية، اطلقت عليها المؤسسات التربوية للمدارس الآشورية اسمي عليها.
أسست رعية القديسين مار بطرس وبولس في سيدني للناطقين باللغة الانكليزية لغرض مد جسور التواصل مع المغتربين القدامى في استراليا.
وفي عام 2016 ، أسست في سيدني كلية اللغة الآشورية لغرض الحفاظ على المقومات الاساسية للشعب الآشوري.
في يناير 2007 تم منحي وسام أستراليا (AM) وهي ميدالية ممنوحة من قبل الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيــا، منحتها معالي السيدة البروفيسور ماري بشير، حاكمة ولاية نيو ساوث ويلز السابقة، لدوري في خدمة كنيستنا ومجتمعنا وتطوير المؤسسات التعليمية التابعة لها.
عام 2009 تم تكريمي بجائزة مواطن استراليا من قبل مجلس مدينة فيرفيلد.
صاحب امتياز مجلة كنيسة بيث كوخي، وهي مجلة الكترونية تعنى بايمان وتراث كنيسة المشرق الآشورية.
أنشأت العديد من الكنائس الجديدة في سيدني وملبورن ونيوزيلندا، ففي عام 2014 قمت بتدشين وتكريس ثلاث كنائس:
الاولى كنيسة مار عبديشوع في مدينة ملبورن والثانية كنيسة مريم العذراء في مدينة أوكلاند النيوزلندية، والثالثة كنيسة مار بطرس وبولس في مدينة سيدني، اضافة الى افتتاح قاعات عديدة للاستخدام الكنسي والاجتماعي في استراليا ونيوزلندا، منها قاعة مثلث الرحمات مار نرساي دي باز في اوكلاند.
عملت على تجديد مدرسة القديس مار جرجس في بيروت، لبنان ودعمها من كل الجوانب وجعلها مؤهلة لاستقبال أكبر قدر ممكن من الطلبة المهجرين من العراق وسوريا، وتحمل اعبائهم، كما أسست هناك لجنة دعم الآشوريين في لبنان وعملت على اعداد قوانين داخلية جديدة لها.
في سيدني أيضاً، أسسنا لجنة خاصة لمنظمة أسيرو، وهي الذراع الخيري لكنيسة المشرق الآشورية الى جميع المحتاجين والتي تتولى مهام مساعدة المهجرين واللاجئين، وتوليت الاشراف على جميع أنشطتها وفعالياتها، لتخصيص ريعها لاغاثة المحتاجين والمتضررين.
س: مسيحيو الشرق وخاصة مسيحيو العراق اصبح الغالبية العظمى منهم في دول الاغتراب كيف تنظرون لهذا الاغتراب هل هو في صالح كنيسة المشرق على المدى الطويل؟.
الاغتراب نوعان، اغتراب الانسان عن ذاته، نفسياً واجتماعياً والذي أسبابه كثيرة منها هضم الحقوق، عدم إعطاء قيمة للانسان في بلده الام، العنصرية والتعصب والطائفية التي يواجهها في مجتمعه، والاغتراب الثاني، اغتراب الانسان عن وطنه كرغبة طوعية او قسرية، بسبب التهديد من النزاعات والحروب.
ولكن الغربة الأصعب اذا اجتمع هذان النوعان من الاغتراب في الشخص الواحد، فيفقد الفرد الشعور بالانتماء كليا، لوطنه وللبلد الذي يعيش فيه بسبب عدم الاندماج الصحيح وفهم الواقع المحيط به فيعيش حالة احباط، فتتحول كل الأمور الدينية الوطنية والقومية الى أمور لا يهتم بها اطلاقاً.
للتغرب سلبيات وايجابيات، ومن إيجابياته على المدى القريب اننا نستطيع ومن خلال الوافدين الجدد الى البلد على المحافظة وحماية هويتنا ولغتنا وكل مقوماتنا الدينية والقومية، باعتبار هؤلاء المهاجرين الجدد، دماء جديدة تسري في شرايين المجتمع، ولكن على المدى الطويل قد يشكل ذلك عامل سلبي اذا تم الاختلاط والانصهار في وسط مجتمع متعدد الحضارات، فتذوب التقاليد والعادات والثقافات والهويات.
هذا من جانب، ومن جانب آخر يشكل الانتقال من بيئة شرق أوسطية الى بيئة غربية، قناة لانتقال كل العادات والاخلاقيات الحميدة الإيجابية التي تعلمها الفرد في الكنيسة نتيجة لايمانه المسيحي، من جهة، ومن جهة أخرى قد يحمل الفرد معه ومن دون ان يشعر، بعض السلبيات التي تولدت نتيجة احتكاكه ومعايشته لفترة طويلة في مجتمع سابق، حتى أصبحت جزاء منه.
الكنيسة لا تعلمنا السلبيات بل تعلمنا كيف نعيش في سلام وباخلاق عالية لذلك قد تظهر في بلاد الاغتراب سلبيات لدى المهاجر نتيجة لاختلاف الثقافات والتعثر في إيجاد أسلوب التعايش الأمثل، فتتسرب منه والى بيئته الحاضنة الجديدة، تلك السلبيات التي قد يظنها صحيحة.
وهنا يجب غربلة العادات، فليس كل ما يحمله المغترب معه هو الاصح، فقد يكون ما يحمله، عادات سلبية، يعتقد الفرد انها إيجابية وصالحة في مجتمعه الجديد، فتتفاقم مشاكل المغترب.
نحن كمسيحيين، يجب ان نعكس طيبتنا وايماننا كشعب محب للسلام ومحب للبلد الذي استضافنا ونتواجد فيه، فمن المهم ان نضع فلاتر لتنقية السلبيات المتولدة فينا سابقاً، والسلبيات التي تواجهنا في مجتمعاتنا الجديدة لكي نخلق جيلا مؤمنا وقويما.
للكنائس في الغرب تحديات كثيرة وكبيرة جداً، تحاول ان تقتحم ايمانها كالتحديات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية التي تواجهها العائلة، وضعف تحصين الشباب والذي يمهد غيابه، الدخول في عالم الجريمة والمخدرات والانفلات، أضافة الى تحديات في الهوية وفي اللغة وتراثها وتبني عادات وثقافات غريبة عنا كمجتمع شرقي متحفظ ومؤمن.
الكنيسة ليست فقط دار عبادة مسيحية لابنائها ، بل هي مؤسسة قومية واجتماعية وثقافية يشعر فيها الفرد بذاته وهويته وانتمائه، ومن دون هذا التفاعل بين الكنيسة وشعبها على مستوى الاخذ والعطاء للوقوف على التحديات الخاصة التي يواجهونها، فان الكنيسة ستعيش منعزلة على أبنائها وقد تتحول الى مؤسسة دكتاتورية، لذلك على الكنيسة ان تكون سباقة في بناء العلاقة مع شعبها من خلال تأسيس مدارس خاصة ذات ابعاد استراتيجية مهمة، وفتح دورات لتعليم اللغة وثقافتها، وتوظيف إمكاناتها المالية في مشاريع البناء والتربية لخدمة شعبها، ويجب ان لا ينصب جهدها فقط، في جمع المال من مؤمنيها، بل ان تضع في خدمتهم مقدراتها المالية، أي تتولد حلقة دائرية متحركة بين التبرعات التي يقدمها الفرد للكنيسة، وبين الخدمات الكنيسة التي تقدمها لهم من اجل بنائهم، وغرس كل القيم والعادات الاصيلة فيهم.
الكنيسة لا تستطيع ان تطلب التبرعات من مؤمنيها من دون ان تريهم إنجازات متمثلة على ارض الواقع.
نحن في عصر العولمة وبدلا من الوقوف عند حدود التغني بامجادنا الحضارية العريقة والافتخار بكنوزنا المشرقية الروحية الجميلة فقط، يجب ان نجد لنا موطئ قدم في وسط ماكنة العولمة التي تكتسح أبناءَنا وبناتنا، لفتح ثغرة في جدار الحاضر والمستقبل لكي نضخ به ماضينا الجميل لكي نقوي ونستنهض مقوماته بشكل فعال.
ولكي نقوم بهذا يجب ان نبني او نعيد بناء حدود الانسان المغترب لصقل وعيه الجماعي، القومي والديني والتاريخي. بناء المدارس ورعاية الشباب، أحد أهم الأهداف لتحقيق ذلك.
لدينا تحديات للكنيسة في الشرق وللكنيسة في الغرب، وعلى الكنيسة في بلاد المهجر ان تعمل بكل طاقاتها على الحفاظ على الكنيسة في الوطن وهي نتيجة فرضتها تزايد عدد المؤمنين فيها من جهة، والقوة الاقتصادية للكنيسة من الجهة الأخرى. فسابقاً كنا نستقدم الكهنة من الشرق للخدمة في الكنائس في الغرب، ولكننا الان نقوم بالرسامات للكهنة في الغرب لان الأخير، هو وليد البيئة الجديدة وله المام تام في التحديات المصيرية، وذو دراية وتطلعات مختلفة باهتمامات أقرانه في معترك الغربة.
س: ماهي وجهة نظركم حول الانتماء القومي لابناء شعبنا بمختلف تسمياتهم وهل الانتماء القومي هو في صالح التواجد المسيحي في العراق ام عكس ذلك؟
الانتماء القومي شعور شخصي وتعبير عن هوية الانسان امام العالم، ويجب عدم فرضها على الآخر من دون اثبات ذلك علمياً وتأريخياً. فقد خلفت الفترة السابقة ونتيجة لصراع التسميات، الكثير من التباعد والانقسام والجفاء بيننا، في فترة حرجة ومصيرية كان يجب ان تكون الأولوية لــ”نحن” على الــ”انا” والــ”أنت” ففي الوقت الذي شغل هذا الصراع القاسم الأكبر من جهد ووقت شعبنا، ضاعت منا الكثير من الحقوق التي كان من الممكن ان نحققها ان جلسنا وتفاهمنا معاً.
وجودنا الى جانب بعضنا البعض عامل قوة لنا، فنحن مستهدفون من الإرهاب بغض النظر عن تسمياتنا. داعش لم يخطف ويقتل من الاشوريين فقط وانما قتل من الكلدان والسريان والارمن أيضاً وحتى اليزيديين وغيرهم، وللأسف أشغلتنا كثيراً صراعات التسمية، وبدلاً من ان تكون عاملا مثمرا لتقاربنا ولوحدتنا ولما هو خيرنا العام، جعلنا منها منصات لبث الكراهية عبر الفضاءات الالكترونية الواسعة.
من المخطئ جداً ان يعتبر شخص ما نفسه ممثلاً عن شعبه ويصدر احكام على الاخرين بطريقة تقسمنا وتشرذمنا وتجعلنا اضحوكة امام العالم.
صعود خطابات الرفض وسموها على رسائل المحبة والتي تقسمنا الى “انا الأول وانت الثاني” أو “أنا الأكثر وانت الأقل” تجعلنا ننسى ان الخطر الذي يداهمنا، لا يحاربنا على قدر ما نحمل من تصنيفات اقتصادية وعلمية وعددية، لانه يعتبرنا واحدا.
يا حبذا لو قام كل من انشغل بتقسيمنا من الاشوريين والكلدان والسريان وبث خطابات التفرقة بيننا في فضاء الانترنت، بالرجوع خطوة الى الماضي وتقييم نتائج وحصيلة ما فعلوه، على ضوء آلام هذا الشعب والمصاعب التي يواجهها في دمار بنيته التكوينية، للبحث عن حلول كان من الممكن ان تجنبنا هذه الويلات التي حلت بنا على أرض الواقع.
كان علينا ان نكون شركاء في عملية انقاذ وخلق جبهة عمل مشتركة، تعمل بالضد مع الانتكاسات التي يتعرض لها شعبنا في أدق مراحله التأريخية التي يمر بها. ان كانت هناك عملية اقصاء يتعرض لها الاشوريون، فانه تتم بالموازاة مع ذلك عملية اقصاء للكلدان والسريان أيضاً، فنحب نعبر عباب المصاعب في الشرق على متن سفينة واحدة، وأي جزء من السفينة يغرق ومن أي جانب كان، يتسبب في غرق السفينة ومن فيها، ايضاً، فأما ان نتحلى بثقافة الأمان لادارة دفة خلاصنا معاً لبلوغ شاطئ السلام، واما ان نجعل من سفينتنا عرضة للغرق وسبب موتنا.
فهل يجوز ان نجعل من موضوع التسمية، سلاحا موجها الى بعضنا البعض، وامواج الارهاب تضرب سفينتنا ؟
انا آشوري وأفتخر بآشوريتي ولا توجد قوة في العالم تستطيع ان تخلع عني آشوريتي وهذا الامر ليس تعصباً، والامر والمشاعر ذاتها نجدها لدى الكلداني والسرياني. الكل هنا يعمل على حماية التسمية التي يحملها، وبينما نحن ننشغل بالصراعات التسموية فاننا نواجه علناً حرباً وجودية تستهدف اقتلاعنا كآشوريين وكلدان وسريان من أرضنا الحضارية، حتى اصبحنا ولأول مرة في التاريخ، موجودين خارج حدودنا الجغرافية، أكثر من الموجودين داخلها.
ومن الغريب ان تكون الجهود المبذولة للتوعية بهذه المخاطر أقل بكثير من تلك التي بذلت في صراع التسميات.
يوميا هناك تقريباً، من 70- 80 عائلة مسيحية تغادر مطارات الشرق نحو الغرب، الى مجتمعات متعددة الحضارات والثقافات، وقد لا تبدي هذه الدول اهتمامها المطلق في الحفاظ على تنوعنا. يجب ان نستخدم العقلانية لانتشالنا معاً من واقعنا المرير ويجب ان لا يكون ذلك معياراً لمن سيربح ويحسب بذلك، عدد مرات ظهوره في الساحة.
لقد خسرنا الكثير على ارض الواقع وحتى تعاطف السياسيين الدوليين معنا، كان آنيا، فرغم انهم يطلقون خطبهم الرنانة بيننا على اننا أصحاب حضارة رائدة وينالون المديح من جانبنا، الا انهم يعرضون عن تحقيق مطالبنا ودعمها ان سألناهم عنها، وهذا مؤشر على اننا يجب ان نقوم بحل مشاكلنا بأنفسنا، لذا أرى من الضرورة ان نبحث عن القواسم المشتركة بيننا وجعلها منطلقا لمواجهة الحرب الوجودية التي نتعرض لها في الشرق.
شخصياً، ليست لدي مشكلة ان أرى الكلداني له كنائس ومدارس ويقوم بتعليم اللغة لان هذا الشيء موضع فرح واحترام لدي، فهو اخي في المسيحية والقومية والتأريخ والثقافة والعادات واللغة، طالما هو لا يتجاهل قوميتي كآشوري، ويعتز بتسميته بطريقة تفرض احترام الاخرين له.
كيف يستطيع ثلاثة من الاخوة ان يشيروا الى أحدهم على انه ليس اخاهم، وهم اخوة في الدم والتربية الواحدة، الغالبية من الآشوريين والكلدان والسريان يحترمون بعضهم البعض والمشكلة التي تتفاقم بين الحين والآخر، تأتي من مجاميع صغيرة متعصبة بيننا، فقبل أيام قرأنا عن كتابات مسيئة ضد البطريرك الشهيد مار بنيامين، وهذا البطريرك هو احد رموز الكنيسة الذي ضحى بنفسه من أجل خلاصها، نحن لا نقبل ان يأتي كلداني ويتكلم عنه بالسوء، ولا نقبل في الوقت ذاته بآشوري يتحدث بالسوء ضد شخصية دينية في الكنيسة الكلدانية أو السريانية. للأسف وصلنا بهذه الكتابات الى مستوى مبتذل لا يدفع ثمن ذلك الا شعبنا المسكين من خلال الانقسام.
س: الاحزاب القومية فشلت في تمثيل ابناء شعبنا فهل يصح للكنيسة ورجالاتها ان تاخذ هذا الدور الى جانب دورها الرعوي الديني ؟
الكنيسة اعطت المجال الواسع لرجال السياسة والاحزاب السياسية لتمثيل شعبنا في المجال السياسي، ولكن علينا ان نقر ان خبرات السياسيين لم تكن بمستوى تحديات المرحلة الخطرة من حياة شعبنا لصعوبة الخوض في غمار السياسة، ولافتقار الثقافة السياسية العالية والتأهيل المناسب للتعامل مع المشهد السياسي العراقي بالشكل المطلوب والجدي.
ومن جهة أخرى، وبسبب ما يطلق علينا خطاً بــ “اقلية” وبسبب تفاقم التعصب الديني والطائفي وارتفاع معدلاته، يوما بعد يوم، الى درجات قياسية عالية في الشرق، فاننا نجد انفسنا في الساحة السياسية، مكتوفي الايادي، حتى لو امتلكنا أحنك السياسيين في هذه المرحلة، فانهم لا يستطيعون ان يخوضوا غمار صراع ضد الطائفية وضد الفساد لاننا “أقل عددا” كما ينظر الينا، رغم انني لا اعترف بتسمية الأقلية، لاننا السكان الاصليون للبلد، وهذا هو طموحنا، ان يتم ادراج مصطلح السكان الاصليين لبلاد ما بين النهرين، لتشير الى شعبنا من الكلدان والاشوريين والسريان، لأننا موجودون قبل دخول العروبة وقبل دخول الديانات الى بلاد ما بين النهرين.
السياسة اليوم متحدة ومخترقة من قبل الدين، فهل يستطيع السياسي المسيحي، أن يخوض هذه المعركة ضد السياسة الدينية والطائفية؟
ماذا فعل البرلمان العراقي لسكان العراق الاصليين؟ فبينما كان الجيش العراقي يقاتل الإرهاب والملايين من العراقيين في الموصل والانبار وفي مدن أخرى يهجّرون قسراً، والعوائل مشردة وأبناؤهم بلا تعليم، واذا بالبرلمان يعطي اولويته لقرار منع الخمور!!
ولنفرض ان تدخلت الكنيسة في السياسة واعطيت لها الأولوية للتدخل فان الموقف سيكون مشابها وسيتم التعامل مع حقوق شعبنا على اسس دينية ايضاً، فمثلا في موضوع أسلمة القاصرين في حالة اشهار اسلام أحد الوالدين، فان الكنيسة قد تدخلت ، لانها شعرت ان مسيحيتها قد غُبنت، الى جانب الصابئية واليزيدية.
نحن نخوض صراعا مع تيار قد يستمر في حكم العراق على مدى العشرين السنة القادمة على اقل تقدير، الى ان تتبلور فكرة لدى الجميع، بضرورة فصل الدين عن الدولة في أمور السلطة والحكم.
وخلال هذه الفترة لن ننال من حقوقنا غير تلك التي تشرعها القوانين الدينية السائدة في البلد، وبقدر ما تنتشر الطائفية فيها، بقدر ما نشهد هضماً لحقوقنا وتضييقاً وخناقاً على شعبنا من قبل الارهاب او من قوانين البلد التي سنجد انها تحد كثيراً من ممارستنا لحريتنا ولعاداتنا وستكون المحصلة النهائية، ان نزيف الهجرة سيكون اكبرا ومستمرا.
فهل نلوم السياسيين او نبحث عن بديل كنسي؟ الكل سيفشل في مجابهة التحديات الحالية.
ككنائس في الغرب، يجب ان نبني أنفسنا في معترك الغربة وأن يتحول اغترابنا، الى عامل قوة لنا من خلال بناء انفسنا والاستفادة من التقدم والتطوروالخبرات والمهارات المتاحة لنا هنا. علينا ان نشجع أبناءنا على التحصيل العلمي والثقافي لشغل أعلى المناصب والوظائف. يهمنا ان يكون أبناؤنا مهندسين وأطباء ومحامين على قدر عال من الوعي الديني، الفكري والحضاري، ليكونوا مؤهلين لجلب انتباه العالم الى قضايا حقوقنا الإنسانية، قادرين على الضغط على مراكز القرار والتحكم بقواعد السياسة الدولية والتي ويا للأسف، لا تعير أهمية لوجودنا.
يجب ان ندرك ان طبيعة عمل احزابنا لا يستند على المبادى الدينية المسيحية اطلاقاً، فرغم كون الكنيسة بناء روحيا للمؤمن الا انها جزء من العالم، وعليها ان تؤثر بالعالم لان أبناءها ملح الأرض ونور العالم. يجب ان يكون الحد الفاصل واضح المعالم بين الكنيسة والسياسة، وعمل كل منهما يجب ان يكون مستقلا، ولكن هذا لا يدعو الكنيسة الى الصمت تجاه ما يتعرض لها مؤمنوها من مظالم في الصراعات والحروب، بل ان تكون ناطقة بلسانهم ان احتاج شعبها الى توجيه وارشاد.
س: التسميات الثلاثة لابناء شعبنا هل هي مصدر قوة ودلالة على تنامي الشعور القومي ام ترون عكس ذلك.؟
بالتاكيد هي شعور قومي للكل وليس لدي مشكلة مع ذلك، ولكن لدي مشكلة عندما يبدأ أحد ما عملية اقصاء وتجهيل ورفض للآخر، وتتبعها عملية تحقير وتصغير، فحتى لو كان هناك انسان واحد معتز بتسميته، يجب ان يعامل باحترام كامل، فكما نحن ننمو مسيحياً، هكذا نحن ننمو قومياً ايضاً.
أن كوننا مسيحيين واصحاب حضارة عريقة ذات عادات ومقومات مشتركة، ونتحدث بلغة واحدة، مصدر قوة لنا بوجه التهديدات التي تطالنا. الوعي بهذه الوحدة رغم جزئيات التسمية تبني لنا كياناً متميزاً. كرجال دين لدينا علاقات سامية مع البعض نتبادل الزيارات والاتصالات في المواقف وعلى علاقة جيدة مع بعض، ولا توجد قيود على تحركاتنا. لماذا ¬¬¬يتم خلق وتبني هذه الفوارق بين الشعب الواحد؟
س: هناك محاولات لتوحيد كنيستي المشرق الاشورية والشرقية القديمة كيف تنظرون لهذه الانقسامات هل هي ظاهرة صحية ام غير ذلك؟
اي انقسام هو ظاهرة غير صحية، والانقسام دائما يكون في الكنيسة لعدم الاتفاق على جانب معين، فيتولد الانقسام، كطريقة للاحتجاج، كان من الممكن ان يحل بطريقة أخرى.
مسألتنا مع الكنيسة الشرقية القديمة ليست مسالة اختلاف في القوانين والعقائد اللاهوتية، بل هي مسالة حدوث أخطاء والتشبث بها. الكنيسة يجب ان تكون أسمى من الاشخاص ويجب ان لا نكون مستعدين لهدم اسسها، من اجل اشخاص.
نحن لا ننظر الى هذا الانقسام كحالة جذرية واقعة ومقسمة للآشوريين في تعاملاتنا اليومية، فلدينا الكثير من المؤمنين يتبادلون الزيارات في الكنائس، ولدينا العديد من الطلبة من الكنيسة الشقيقة مسجلين في مدارسنا الاشورية، ولهذا فان هذا “الخلاف” وليس “الانقسام”، غير موجود على مستوى الشعب، بل على مستوى القيادة الدينية للكنيسة وهو يوما ما سيجد طريقه للوحدة.
كنيستنا ابوابها مفتوحة دوما لأشقائنا، فنحن لا نمنع ابناءنا من زيارة الكنيسة الاخرى وهذا الامر ننتظره من المقابل أيضاً لخلق بيئة وحدوية، وشعبنا لديه القناعة الراسخة ، ان هذا الانقسام غير مجد اطلاقاً وانه يجب ان تتوحد الكنيسة لا محالة يوماً ما.
نحن في كنيسة المشرق الاشورية قطعنا خطوات غير مسبوقة لكي نجعل الوحدة ماثلة أمامنا، ولكنها للأسف لم تحدث، نحن غير مستعدين للتضحية أكثر ولكننا نؤمن ان الوحدة ستحدث يوما ما في هذه الكنيسة لعدم وجود عوائق دينية جذرية.
س : هناك من يقول بان الايمان يتناسب بشكل عكسي مع تنامي المستوى المعاشي والثقافي للمؤمنين . كيف تجدون ذلك مع المؤمنين في استراليا ؟.
العمل هو الطريق الطبيعي لكسب لقمة العيش وهو اللبنة الاساسية لتقوية دعائم العائلة اقتصادياً، ومن الضروري التفكير بحياة العائلة والعمل على بناء مستقبلها. وقد تفرض ظروف العمل على الفرد ان يكون مشغولا عن الكنيسة لتامين احتياجات عائلته الاساسية، فيتغيب رب الاسرة عن الكنيسة وهنا قد تصل رسالة خاطئة لأفراد عائلته، عن عدم أهمية حضور الكنيسة في أيام الآحاد.
متابعة الكنيسة لمثل هذه الحالات يجب ان تزداد، للتقليل من حالة الضغوط النفسية التي تواجهها العائلة من خلال زيارات الكهنة للعوائل والتوضيح والموعظة عن ترتيب الاوليات في حياتها، لانه ليس هناك شيء ذو قيمة أسمى في هذه الحياة، أكثر من الخلاص، قال يسوع: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالـم كله وخسر نفسه” (متى26:16)، ما فائدة الانسان وهو يسعى لجني المال على حساب نموه ونمو عائلته الروحي؟ ما فائدة الانسان وهو يملك العشرات من المنازل وابنه نزيل السجون؟ ما فائدة ان لديك الملايين من الدولارات وان ابنتك مدمنة على تعاطي المخدرات؟
بركة الرب هي التي تغني، كما يقول سفر الامثال، فمن المهم ان يتذكر الفرد ان هذه البركة بحاجة الى الحفاظ عليها، لا أن تكون سبباً في ابعادنا عن الكنيسة.
نحن نعلم الظروف التي يمر بها رب الاسرة في الغرب، فهو يعمل بجهد حتى في يوم السبت أحيانا كثيرة، وكل ما يتبقى له من ايام الاسبوع، يوم الاحد للاستراحة ولقضاء الوقت مع العائلة لتقوية الاواصر، وللكنيسة من اجل بركة الحياة، فعند حضور المؤمنين الى الكنيسة فانه من المهم ان ترتكز الخطابات الدينية للكاهن، على الانجيل المعاش لكي تستمر رسالة المحبة الى الجميع، فتراعي الرسالة الموعظية، الاختلافات والضغوط النفسية للمؤمنين، لغرض استمرار جنيهم للثمار الروحية من الكنيسة، والا ستكون عامل نفورهم.
ورجال الكنيسة يجب ان يكونوا دعاة راحة نفسية وروحية لمؤمنيهم، لحمل الاعباء عنهم لان ربنا يسوع المسيح يقول، “تعالوا الى يا جميع المتعبين والثقيلي الاحمال وانا اريحكم” ( متى 11: 28).
على الكنيسة ان لا تقف مكتوفة الايادي امام ظاهرة غياب أبنائها عنها، يجب ان تبادر بالاتصال بهؤلاء وخلق فرص تفاعل معهم ومع عوائلهم لضمان نموهم الروحي، لذلك فتحت كنيسة المشرق الآشورية وللجالية في سيدني، المدارس الآشورية واوجدنا جمعية للشبيبة وبرامج لأطفال للرب، فكل يوم اربعاء لدينا بحدود 200- 300 طفل يتعلم الاسس الدينية الى جانب الترفيه اضافة اكثر من 1500 طالب في المدارس الاشورية.
الكنيسة اليوم مطالبة في الدخول في حياة مؤمنيها، روحياً وانسانياً للمشاركة في حمل الاعباء عنها، وان لا يكون خطابها فقط لجمع التبرعات، لان مؤمنيها اليوم بحاجة الى مدارس ومراكز شباب واطفال وحضانة وغيرها الكثير، اكثر من حاجتهم الى رؤية كنائسهم مزينة بأفخم الجدران والاثاث، لانهم امام تحديات كبيرة اجتماعية، ثقافية، نفسية، اباحية، مشاكل الادمان على المخدرات والجريمة اضافة الى مشاكل الفضاءات الالكترونية التي يدخلها الفرد من دون رقيب، الامر الذي يولد مشاكل جفاء كثيرة في العائلة، وتفتت وشجار وانفصال وطلاق.
على الكنيسة ان تسعى لكي يستثمر أبناؤها أوقاتهم بين جدرانها ومؤسساتها، مهما كان الثمن، وعلى رجال الدين ان يساهموا في خدمة المجتمع.
من جهة اخرى، الرجل المثقف ليس خطراً على الكنيسة، وان كان هناك من يكون انعزالياً، لا يتردد اليها ويجد نفسه في غنى عنها. الانسان المثقف قادر على خدمة مجتمعه بشكل أفضل ان توفرت له الاجواء المناسبة. الكنيسة تستطيع ان توفر له تلك المساحة والاجواء لانها أكبر مؤسسة مؤثرة في الشعب.
مشكلة بعض المثقفين انهم يجدون في رجل الكنيسة منافساً لهم، فيعيشون معه في صراع، بدلاً من أن تكون العلاقة تكاملية. وبسبب صعوبة فرض المثقفين للطروحات الشخصية والافكار في المجتمع، كما يفعل رجل الدين، فانهم يلجؤون الى مهاجمته رغبة منهم في الازاحة والتفرد.
المثقف، من يعمل على تثقيف امته وانهاضها من سباتها، لا مهاجمة مؤسساتها كالكنيسة مثلاً، لانها عامل الاصلاح الروحي الحقيقي للامة، وكل مثقف مسيحي مؤمن، هو عامل قوة لها. مرحلتنا التاريخية العصيبة، تتطلب منا التكاتف والتعاون بين الجميع.
س: كان لكم موقفا مشرفا وحازما تجاه البعض من اتباع الكنيسة الذين يتطاولون على رجال الدين الافاضل . كيف تنظرون للعلاقة المثالية بين رجال الدين والرعية بشكل عام؟
انا ارفض كل اشكال التطاول ومن أي كان، مهما حمل الفرد من درجة دينية أو اجتماعية، انسانا عاديا كان، أم سياسيا او بطريركا، لانها ليست من اخلاقياتنا المسيحية.
الحوار الحضاري البناء المبني على الاحترام، يجب ان يسود بيننا في لحظة تقاطعاتنا واختلافنا في الرؤية، لا تكون لغة السباب والانتقاص من الاخر، ومن جهة اخرى يتوجب على رجال الدين ان يكونوا حذرين في خطاباتهم ومعرفة كيفية ايصال فكرتهم ورؤيتهم الى عامة الشعب.
يجب على رجال الدين ان لا يكونوا سبب اثارة النعرات والجدال بين أبناء الكنيسة أو مع السياسيين وان لا يكون خطابهم تنقيصا وحطا من المقابل، لأننا كلنا امام المسيح سواسية.
من الضروري الانتباه الى الخطابات التي تفوح منها رائحة المصلحة الذاتية والتي يكثر فيها استخدام الشعارات القومية والكنسية، لانها ضيقة جداً ولا تسهم الا في تحقيق مصالح فئوية.
يجب ان يسود الاحترام في العلاقة بين رجال الدين والرعية وبين مختلف أبناء شعبنا لأننا اخوة يقول المسيح في وصية كتابية: ” فكل ما تريدون ان يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم ايضا بهم” (متى 7: 12)
مع شكري وتقديري للدكتور عامر ملوكا وارجو ان تكون المقابلة عاملاً لبناء اواصر المحبة والاخوة بيننا جميعاً والرب يبارككم.