الرئيسية > البلدان > استراليا ونيوزيلاند ولبنان > محاضرة للاب سرجون زومايا في لبنان عن التطويبات

محاضرة للاب سرجون زومايا في لبنان عن التطويبات

في كنيسة مارجيوارجيوس الآشورية بلبنان الأب سرجون زومايا يلقي محاضرة عن التطويبات

يؤاش الشماس جاني / لبنان ashuramshlama@yahoo.com

القى الأب سرجون زومايا راعي كنيسة مار جيوارجيوس الآشورية في لبنان يوم الجمعة 9/1/2015 محاضرة وتأمل في انجيل متي الإصحاح الخامس، وبحضور عدد من ابناء الأبرشية، حيث اكد بأن الموعظة على الجبل والتي تخص الإصحاحات الثلاثة من إنجيل معلمنا متى (5-6-7)، قد اهتم بها آباء الكنيسة الأولى، كما شغلت أذهان الحكماء من غير المسيحيين، بكونها تمثل دستورا حيا للحياة الكاملة. واعقب مفسرا بأن الرب يسوع المسيح التقى بشعبه على الجبل ليتحدث معهم معلنا دستور مملكته. في القديم صعد موسى النبي على الجبل ليتسلم الشريعة بعد صوم دام أربعين يوما، ولم يكن ممكنا لأحد غير موسى أن يتسلم الشريعة أو يسمع صوت الله، إنما يرون الجبل يدخن والسحاب الكثيف يحيط به والرعود ترعب، أما الآن فقد نزل كلمة الله في شكل العبد ليجلس مع بني البشر على الجبل يتحدث معهم مباشرة وفي بساطة.

فيشير الجبل أيضا إلى تلك النفوس العالية التي للآباء والأنبياء في العهد القديم وللتلاميذ والرسل في العهد الجديد بكونهم جميعا يمثلون جبلا واحدا مرتفعا إلى الأعالي، فقد جلس السيد عليه يتحدث، لأن هذا هو غاية الناموس والنبوّات أن يقودنا إلى المخلص. جلس المسيح على الجبل تقدم إليه تلاميذه. ليكونوا قريبين منه بالجسد ليسمعوا كلماته، كما هم قريبون منه بالروح بتنفيذ وصاياه. لقد حدثنا الرب المسيح عن أهم رسالة وهي دستوره، تكشف عما في داخله وتعلن أسراره الداخلية من نحونا. إنها تفتح قلبه لنا. ان يسوع فتح قلبه وكان دائم التعليم. إنه يريد أن يدخل بكل شعبه إلى أسراره القلبية ليتعلموا أسرار محبته لهم. بدأ المسيح دستوره بالجانب الإيجابي، حيث جذبهم إلى “الحياة الفاضلة”، كاشفا لهم عن مكافأتها، ليحثهم عليها.

 

طوبى للمساكين بالروح من خلال حياة التواضع يدرك الإنسان أنه بدون الله يكون لا شيء، فينفتح قلبه بانسحاق لينعم ببركاته. فإن كانت خطيئة آدم الأولى هي استغناءه عن إرادة الله بتحقيق إرادته الذاتية، لذلك جاء كلمة الله الغني بحق مفتقرا من أجلنا، ليس بالإخلاء عن أمجاده فحسب، وإنما بإخلائه أيضًا عن إرادته التي هي واحدة مع إرادة أبيه. فإن التواضع هو مدخلنا للملكوت: “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات”. طوبى للحزانى الإنسان المتواضع ينطلق بالروح القدس إلى “الحزن الروحي”، حيث يدرك خطاياه ويشعر بثقلها مقدما التوبة الصادقة. إنه يتلمس أيضا الضعف البشري فيحزن من كل نفس ساقطة. الحزن هو التأسف بسبب فقدان أشياء محبوبة، غير أن الذين يهتدون إلى الله يفقدون تلك الأشياء التي اعتادوا اقتنائها في هذا العالم كأشياء ثمينة، لأنهم لا يفرحون فيما بعد بما كانوا يبتهجون به قبلا. فإذا وجدت فيهم محبة الأشياء الأبدية. فإنهم يكونون مجروحين بقدر ضئيل من الحزن.

 

لهذا يتعزون بالروح القدس أي المعزي، حتى يتمتعوا إلى التمام بما هو أبدي بفقدانهم المتع الوقتية. طوبى للودعاء الحزن الدائم على خطايانا وخطايا الآخرين يصقل النفس فيجعلها وديعة، لا يقدر أمر ما – مهما بلغت خطورته – أن يفقدها سلامها الداخلي، فالوداعة في حقيقتها هي قوة الروح الداخلي الذي يدرك أسرار الخلاص الأبدي فلا تربكه الأمور الزمنية. يتفهم رسالته الحقيقية، فلا يتأثر بالتفاهات الباطلة. هكذا هي النفس الوديعة إذ تدرك إمكانيات الله فيها، وتتفهم قوة الروح، تحيا بوداعة داخلية تنعكس على التصرفات الخارجية. طوبى للجياع والعطاش إلى البر يمكننا أن نتفهم هذه العبارة إن رجعنا إلى الشعب القديم في البرية حين جاءوا وعطشوا، لم يكن الجوع بالنسبة لهم مجرد إحساس بالمعدة الفارغة بين الوجبات، ولا العطش مجرد رغبة في التمتع بقليل من الماء لإرواء ظمأ عادي، إنما كان الأمر يمثل حياة أو موت، كان الجوع والعطش في البرية هو صراع من أجل الحياة ضد الموت. هكذا اشتياقنا إلى الرب المسيح برّنا ، لا يكون ثانويا في حياتنا، إنما هو يمثل حياتنا إلى الأبد أو هلاكنا الأبدي.

 

طوبى للرحماء إن كان الجوع الروحي يدفعنا بالروح إلى التمتع بالرب المسيح وانطلاقنا إلى حضن الآب، فإن علامة هذا الشبع هو تمتعنا بسماته فينا خاصة الرحمة المملوءة حبا. يقول السيد: “كونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم” ، ليس كوصية نلتزم بها بقدر ما هي هبة إلهية ننعم بها خلال شركتنا مع الله الرحيم في ابنه. الرحمة هي وصية الله لنا وعطيته المجانية، تفتح قلبنا لا عند حد العطاء المادي للفقراء، وإنما يحمل طبيعة الرحمة في كل تصرفاتنا. طوبى لأنقياء القلب من يتشبه بالرب حاملا سمة الرحمة المملوءة حبا، يعمل الله في قلبه بلا انقطاع لتنفتح بصيرته الداخلية على معاينة الله. القلب النقي هو العين الروحية الداخلية التي ترى ما لا يُرى. “النقاوة” تشير إلى الغسل والتطهير كإزالة الأوساخ من الملابس، وتعني أيضا تنقية ما هو صالح مما هو رديء وتستخدم أيضا بمعنى وجود مادة نقية غير مغشوشة. هكذا القلب الذي ينحني على الدوام عند أقدام ربنا يسوع المسيح يغتسل على الدوام بالدم المقدس فيتنقى من كل شائبة. فلا يترك مجالًا لفكر شريرٍ أو نظرة رديئة أن تقتحمه، ولا يسمح لشهوة رديئة أن تسيطر عليه ، وهكذا يصفو القلب ويتنقى بكل اشتياقاته وأحاسيسه ودوافعه فلا يطلب في كل شيء إلا الله وحده، فيعاينه خلال الإيمان بالروح القدس الساكن فيه. طوبى لصانعي السلام معاينة الله بالقلب النقي لا يعني مجرد اكتشاف أسرار الله فكريا، وإنما هو دخول إلى الحياة الإلهية، وتمتع بالشركة مع الله، لنعمل عمل المسيح أي “السلام” بكوننا أبناء الله.

 

وملكوته ملكوت بر وسلام وفرح في الروح، أما ثمن هذا السلام فهو دمه الثمين المبذول على الصليب. أن صنع السلام هو طبيعة ينعم بها أولاد الله في داخلهم، خلال السلام الداخلي الذي يحل بين الروح والجسد بالروح القدس في المسيح يسوع، فيظهر ملكوت السماوات داخلنا. فأبناء الله صانعوا سلام، إنهم صانعوا سلام في داخلهم، إذ يسيطرون على حركات أرواحهم ويخضعونها للصواب أي للعقل والروح، هكذا يظهر ملكوت الله فيهم. فالسلام هو قوة المسيحيين إن لم يوجد سلام في قلبي ماذا يفيدني أن يكون الآخرون في سلام؟ المسيح ربنا هو السلام… لنحفظ السلام فيحفظنا السلام في المسيح يسوع.

 

طوبى للمطرودين من أجل البرّ إذ ننعم بالبنوة لله خلال اتحادنا مع ابن الله الوحيد في مياه المعمودية نمارس عمله الذي هو السلام، الأمر الذي يقابله الشيطان بالمقاومة فيثير حتى الأقرباء ضدنا. إن كان المسيح قد ختم التطويبات باحتمال التعيير والطرد أي الاضطهاد فقد اشترط لنيل المكافأة السماوية أن نحتمل ذلك “من أجل البرّ”، وإذا شعرنا بالحزن، نستغيث بروح المسيح الذي فينا، لكي يرد الحزن وينزع القلق من قلبنا. في الوقت الذي فيه يوصينا سيدنا المسيح بالوداعة قائلا: “طوبى للودعاء” إذ به يقول: ” تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (متي 11: 29)، وبينما يقول: “طوبى لصانعي السلام” إذا بالرسول بولس يعلن عن رب المجد يسوع أنه “جعل الاثنين واحدًا ونقض حائط السياج المتوسط، أي العداوة” (أفسس 2: 14-15)، وبينما يقول الرب “طوبى للمطرودين من أجل البر” الرب نفسه يطرد خارج أورشليم ليحمل عار الصليب. وهكذا أيضا إذ يقول “طوبى للحزانى” نراه حزينا على أورشليم يبكيها من أجل ثقل خطايانا (لو19: 42).

 

في اختصار نقول إن السمات التي ننال خلالها الطوبى إنما هي سمات المسيح نفسه، وليست مجرد ممارسات نجاهد فيها بذواتنا، لذا فإن دخولنا إلى الحياة المطوبة يكون خلال يسوعنا الداخلي الذي وحده يهبنا شركة سماته فينا، يكون هو سر وداعتنا وسلامنا واحتمالنا الضيق وحزننا على خطايانا وخطايا الآخرين، لنقتنيه فنقتني الشركة في أمجاده في عربونها هنا وفي كمالها في يوم الرب العظيم. نتمسك به فننعم بالحياة المطوبة الحقيقية. اختمت المحاضرة التأملية بصلاة جماعية …. نسألك يا رب ان تغفر لنا جميع ما اخطئنا ، سامحنا واصفح عن سيئاتنا من اسمك القدوس، وامح با رب خطايانا وارحمنا، لأنك مبارك ولك ينبغي المجد والإكرام والسجود والوقار، الآن والى الأبد الأبدين آمين.